«لا تقلق يا حبيبي»... ذكورة سامّة في المدينة الفاضلة

من فيلم «لا تقلق يا حبيبي» (Don't Worry Darling, 2022)

 

يعرض فيلم «لا تقلق يا حبيبي» (2022) حنين الرجال إلى فترة تعود إلى ما قبل تحرّر النساء. حنين إلى فترة فيها الحياة الزوجيّة تمثّلت في طاعة النساء المطلقة، وانحصار حياتها في المطبخ والسرير. هذه الفترة لم تكن قطّ فترة حقيقيّة أو واقعيّة بشكل شامل، بل هي فترة متخيّلة، فيها يرى الرجل نفسه منقذًا لنساء العالم أجمع من ضوضاء الحداثة، وحرّيّة حقوق النساء المعيقة.

 

عالم الذكور المثاليّ 

يبدأ فيلم «لا تقلق يا حبيبي» بقصّة أليس وجاك تشامبرس، زوج يعيش حياة تقليديّة سعيدة في مدينة «مشروع فيكتوري»، وهي ما يسمّى بمدينة - الشركة، أي أنّها مدينة صغيرة تؤسّسها شركة معيّنة لعامليها، فيسكن معظم العمّال قريبًا من المصنع أو مكان العمل، في ذات المنطقة السكنيّة. هذا النوع من التجمّعات السكّانيّة الأوروبّيّة والأمريكيّة كان يميّز القرن التاسع عشر حتّى منتصف القرن العشرين، أي أنّه تطوّر خلال الثورة الصناعيّة. في مدينة الشركة المعروضة في الفيلم، تقطن عشرات العائلات المكوّنة من أزواج شابّة، وفي عدد قليل منها يمكن إيجاد أطفال كذلك. 

في معظم الأفلام، تُعرض فترة الخمسينات في الولايات المتّحدة على أنّها أكثر الفترات استقرارًا لمفهوم العائلة، كون النساء عُدْنَ إلى البيوت ليكنّ ربّات منازل، والرجال عادوا إلى العمل أخيرًا بعد سنوات من الحروب المتواصلة...

من المشهد الأوّل، يعرض لنا الفيلم قصّة عائلة سعيدة، فيها يستيقظ الرجل ليجد زوجته تعدّ له الفطور، وتودّعه بقبلات حارّة قبل انطلاقه إلى العمل، ثمّ تودّعه وهو يركب السيّارة وينضمّ إلى قافلة سيّارات العمّال الّتي تنطلق في ذات الساعة إلى العمل. عند اختفاء سيّارات الأزواج في الأفق تنتبه كلّ نساء الحيّ إلى أنّهنّ يقفن جميعهنّ في حدائق المنزل لتودّع الأزواج، فيحيّين بعضهنّ بتحيّة صباحيّة ويعدنَ إلى منازلهنّ لينظّفنه ويرتّبنه قبل عودة أزواجهنّ في نهاية يوم العمل. خلال ساعات الظهر، تلتقي نساء الحيّ مرّة أخرى في نشاطات استجماميّة مختلفة، كالتسوّق أو النميمة أو حتّى حلقات رقص الباليه، ثمّ يعُدنَ إلى منازلهنّ لإعداد وجبة العشاء للأزواج. عند عودة الرجال من العمل يقسّمون أوقاتهم بين الجنس والعشاء، حتّى تنتهي السهرة ويخلدون في النوم، منتظرين روتين الغد مرّة تلو الأخرى. 

هذا النمط من الحياة الأمريكيّة، عُرض عشرات المرّات في السينما الهوليووديّة على أنّه يمثّل عمليًّا طبيعة الحياة في الخمسينات، بعد عودة الجنود إلى الولايات المتّحدة في نهاية الحرب العالميّة الثانية. في معظم الأفلام، تُعرض هذه الفترة على أنّها أكثر الفترات استقرارًا لمفهوم العائلة، كون النساء عُدْنَ إلى البيوت ليكنّ ربّات منازل، والرجال عادوا إلى العمل أخيرًا بعد سنوات من الحروب المتواصلة. لكن، بالضبط عن هذه الفترة كتبت بيتي فريدان كتابها «اللغز الأنثويّ» (1963)[1]، حيث ناقشت فيه مشكلة هذه السنوات في المجتمعات المتوسّطة الدخل. يحلّل الكتاب حياة النساء البيضاوات من الطبقة المتوسّطة في الولايات المتّحدة في الخمسينات، ويصف مدى إحباطها من هذا النمط ومن قلّة فرصها. فريدان تُسمّي هذا الإحباط بـ "المشكلة الّتي لا اسم لها"، كونها مشكلة لم يتمكّن علم النفس السريريّ من تعريفها أو تصنيفها، ولم تتمكّن المجتمعات من استخلاصها من قيود التابوهات المجتمعيّة لتبدأ بنقاشها.

 

فساد ذكوريّة المدينة الفاضلة

القسم الأوّل من الفيلم يعرض لنا هذه الحياة بصورة يوتوبيّة متطرّفة، أي بكونها تمثيلًا للمدينة الفاضلة كما قد يراها رجل، حيث ينطلق كلّ يوم إلى عمله بمباركات حميميّة من زوجته، ووجبة فطور، ويعود إليه في نهاية اليوم باستقبال حارّ ووجبة عشاء. مفهوم اليوتوبيا هو مفهوم طوّره الفيلسوف الإنجليزيّ، ابن القرن الخامس عشر، توماس مور، في كتاب يحمل اليوتوبيا في عنوانه[2]، فيه وَصَفَ المجتمع المثاليّ بمنظوره من خلال وصف مدينة غير محدّدة المكان والزمان، يعيش فيها الجميع حياة سعيدة وعادلة ومنصفة. في أيّامنا هذه، خاصّة بعد القرن العشرين الدامي، أصبح مصطلح اليوتوبيا مصطلحًا افتراضيًّا يصف مجتمعات متخيّلة، هدف وصفها هو فحص الإمكانيّات الاجتماعيّة في بيئة مجرّدة وغير مسمومة بالأرضيّة التاريخيّة. على مرّ العصور، يمكننا إيجاد عشرات الفلاسفة ورجال الدين الّذين حاولوا وصف اليوتوبيا كأداة لتخيّل المجتمع المثاليّ، كما فعل أفلاطون في المدينة الفاضلة الّتي يديرها الفلاسفة في جمهوريّته[3]، أو كما وصف أوغسطينس القدس، في كتابه «مدينة الله»[4]. كذلك فإنّ كلّ تخيّل للحياة ما بعد الموت، كما هي ’فالهالا‘ في الميثولوجيا النورديّة، أو ’ميكتلان‘ في الميثولوجيا الأزتيكيّة، هو تصوّر معيّن للحياة المثاليّة الّتي تمثّل مجمل الأخلاق الّتي يقدّسها الشعب الراوي للنصّ.

في عصرنا يمثّل مصطلح اليوتوبيا نوعًا أدبيًّا وسينمائيًّا مقابل للديستوبيا أو المدينة الفاسدة، حيث يمثّل كلٌّ منهما صورة افتراضيّة متطرّفة للواقع كما نعرفه. لكن، في محاولة تصنيف «لا تقلق يا حبيبي»، بين اليوتوبيا والديستوبيا، نجده فيلمًا يحاول عرض اليوتوبيا الذكوريّة في قسمه الأوّل، حتّى تبدأ بالتفكّك عند تشكيك النساء فيها، ممّا يبلور هشاشتها وطاغوتها في ذات الوقت. هكذا تنغمس اليوتوبيا بالديستوبيا لتكشف فكرًا يرى بالفكر التطرّفيّ فكرًا ديستوبيًّا في صميمه، حتّى لو كان مقصده يوتوبيًّا في البداية، إلّا أنّ فرضه على الآخر يفسده.

 

 

في الفيلم تبدأ البطلة، أليس، بالتشكيك في مدى سعادة النساء في المدينة عندما تشهد انتحار واحدة من جاراتها، ثمّ ترى محاولة إنكار الحادثة من قِبَل الشركة في المدينة. تكرار الإنكار، وإشاعة قصّة أنّ الجارة مريضة نفسيًّا، وأنّ زوجها قد أخذها إلى مشفًى بعيد عن المدينة، يؤدّي بأليس إلى بداية التشكيك في مثاليّة حياتها وفي منطقيّتها. عند ازدياد تشكيك أليس بمثاليّة هذا العالم، يدعو مدير الشركة أليس وزوجها جاك إلى سهرة احتفاليّة، فيها يعلن ترقية زوجها في الشركة، وتنكشف أليس لمدى قوّة مدير الشركة، فرانك، وقدرته على التأثير في جميع العمّال فيها. في مشهد رمزيّ، يطلب مدير الشركة من جاك الرقص ليشارك سعادته الترقية مع جميع الحضور، فيبدأ جاك برقصة نقريّة (Tap-Dance)، تبدو كأنّها رقصة دمية متحرّكة، ماريونيت، ممّا يرمز إلى أنّه كذلك دمية على خشبة المسرح. أساليب الرقص المختلفة المعروضة في الفيلم ترمز كثيرًا إلى أحداثه ورمزيّاته المختلفة؛ ففي مشهد آخر نرى أليس تشاهد «رقصة الهياكل العظميّة» (The Skeleton Dance, 1929) الشهيرة من فيلم «ديزني» القديم، الّتي ترمز إلى موت الشخصيّة الفردانيّة عند الانغماس بالامتثال، كما يحدث مع كلّ سكّان الحيّ في الفيلم. في مشهد آخر من المشاهد الأولى في الفيلم، تذهب أليس إلى نشاط مع جميع الزوجات لتعلّم الباليه، لتدرّبهنّ على هذا الرقص زوجة مدير الشركة. هنا، يرمز الباليه إلى شدّة الالتزام بتعاليم الشركة، وحاجة الزوجات إلى القيام بواجباتهنّ بحذافيرها، إذ إنّ الباليه يعتبر من أدقّ الرقصات وأكثرها صرامة وحاجة إلى التدريب والالتزام، كما هي الزوجات في الفيلم.

بعد إعلان ترقية جاك، تفهم أليس أنّ فرانك، مدير الشركة، يحاول تنويم شكوكها، فتقرّر دعوة مدير الشركة وزوجته إلى عشاء في بيتها مع مجموعة أصدقاء آخرين، وهناك تشارك شكوكها أمام الجميع. هنا تزداد حفيظة فرانك، فيسلّط الضوء على أليس، ويواجه شكوكها في اتّهامات تجعلها تبدو في هيئة المريضة النفسيّة، بالطريقة ذاتها الّتي صُوِّرَتْ فيها جارتها الّتي انتحرت من خلال تقنيّات التلاعب النفسيّ بالعقول (Gaslighting). بعد ذلك، تحاول أليس جاهدة إقناع جاك بترك المدينة، لكن عندما يقبل ويأخذها إلى السيّارة ليهجرا المدينة، يداهمهما رجال فرانك ليأخذوا أليس إلى العلاج في المصحّة، وتكتشف أنّ زوجها، جاك، هو من استدعاهم. في غرفة العلاج، الّتي تتمثّل بسرير وبآلات تخليج كهربائيّ (ECT)، يبدأ المشاهد بفهم إحداثيّات الفيلم القاسية والمركّبة؛ من خلال استرجاع مشاهد من حياة أليس قبل الانتقال إلى عالم «مشروع فيكتوري».

 

 قصّة أليس

مشهد الاسترجاع يعيدنا إلى حياة أليس قبل وصولها «مشروع فيكتوري»، ويكشف لنا أنّها كانت طبيبة جرّاحة تعمل في ورديّات متواصلة لمدّة 30 ساعة، ثمّ تعود إلى بيتها لتجد زوجها جاك العاطل من العمل، في ملابس البيت يجلس أمام عدد من الشاشات، ويؤدّي نشاطات فارغة. عند وصولها إلى البيت، تسأله إن كان قد أعدّ طعامًا، فيجيبها بأنّه لم يعرف ماذا تريد أن تأكل، وأنّها لم تجب عن رسائله. عندها تغضب أليس وتقول له بأنّه لا يمكنها الردّ على الرسائل في غرفة العمليّات، وأنّ عليها الخلود في النوم لأنّ ورديّتها التالية تبدأ بعد ساعات معدودة.

في محاولة تصنيف «لا تقلق يا حبيبي»، بين اليوتوبيا والديستوبيا، نجده فيلمًا يحاول عرض اليوتوبيا الذكوريّة في قسمه الأوّل، حتّى تبدأ بالتفكّك عند تشكيك النساء فيها، ممّا يبلور هشاشتها وطاغوتها في ذات الوقت...

هذا المشهد الاسترجاعيّ هو مشهد مركّب جدًّا، إذ ينقلنا من الخمسينات في «مشروع فيكتوري» إلى أيّامنا الحديثة هذه، ويكشف لنا أنّ أليس هي طبيبة جرّاحة ناجحة جدًّا، بينما زوجها عاطل من العمل، ولا يفعل أيّ شيء مفيد بتاتًا. لكنّه كذلك يكشف لنا تعقيد الحياة الاجتماعيّة والاقتصاديّة في العصر الحديث، فيه تحرَّر الإنسان من عشرات القيود الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ومن سلطة الحكم الملكيّ وغير ذلك، إلّا أنّ الحداثة جلبت معها كذلك قيودًا جديدة لا تقلّ صعوبة عن تضييقات القرون السابقة. أحد أبرز علماء الاجتماع في القرن السابق، تشارلز تايلر، عرّف هذه التضييقات بوصفها ’قلق الحداثة‘[5]، وعدّد منها ثلاثة تضييقات أو أزمات، هي: الفردانيّة والعقلانيّة الأداتيّة، والانصياع للاستبداد الناعم. كلّ هذه الأزمات تحصل على تمثيل واضح جدًّا في الفيلم، في كلا العالمين المعروضين فيه – عالم فيكتوري الافتراضيّ والعالم الحقيقيّ، وعمليًّا الفرق الوحيد بين العالمين هو حرّيّة أليس بالاختيار.

عند استيقاظ أليس من العلاج، تجد نفسها في البيت مرّة أخرى مع جاك، فتراودها ذكريات استرجاع لحياتها السابقة، فتفهم أنّ ’فيكتوري‘ هو مشروع عالم محاكاة أنشأه فرانك، وأنّ جاك، زوجها، هو من أجبرها على المشاركة في المحاكاة، على أمل أن يتمكّنا من عيش حياة مثاليّة، بمفهومه، معًا. عندما يدرك جاك أنّها تعرف الحقيقة، يدّعي أنّه فعل ذلك من أجلها، لأنّها كانت بائسة في حياتها الحقيقيّة كطبيبة جرّاحة تعمل في كلّ ساعات اليوم. لكنّ أليس تغضب بشدّة عندما تنكشف هذه الحقيقة، لأنّ جاك سلبها حرّيّة الاختيار وسلبها استقلاليّتها. يحضتن جاك أليس ويتوسّل إليها أن تسامحه، ثمّ يحاول خنقها ليعيدها إلى المصحّة؛ ممّا يجبر أليس على قتله خلال العراك.

عندها مباشرة، يُعلَم فرانك بأنّ جاك قد قُتِلَ، فيرسل واحدة من الجارات لتهدئة أليس، لكنّ أليس تباشر بمشاركة جارتها بما حصل. هذه الجارة هي بوني، الّتي تمثّل شخصيّتها مخرجة الفيلم أوليفيا وايلد، تحكي لأليس أنّها الزوجة الوحيدة الّتي تعرف حقيقة ’عالم فيكتوري‘، وأنّها اختارت هذه الحياة الافتراضيّة فقط لتتمكّن من تربية أطفالها المتخيّلين في ’عالم فيكتوري‘؛ لأنّها فقدت أطفالها الحقيقيّين في الواقع. هنا تغضب أليس أكثر، وتهرب من العالم الافتراضيّ، بينما يلاحقها رجال فرانك.

 

أليس في بلاد الرجال

هذا الفيلم المركّب يصنّف ضمن أفلام الإثارة النفسيّة (Psychological Thriller)، ومن الواضح أنّه يستقي الكثير من أفكاره من أفلام أخرى، ويدمج بينها؛ لهذا السبب، لا يكمن جماله في سينمائيّته، بل في طروحاته الفكريّة. مثلًا، اسم الفيلم في الإنجليزيّة هو «Don’t worry darling»؛ أي أنّه غير واضح فيه مَنْ يقول للآخر "لا تقلق"، أهي أليس تقول لجاك "لا تقلق يا عزيزي" (أو حبيبي)، أم أنّ جاك يقول لها "لا تقلقي يا عزيزتي" (أو حبيبتي). كون الفيلم يترك الخيار للمشاهد، يرمز إلى كون الشخصيّتين ضحيّتين للذكورة السامّة في الفيلم. لكنّ هذا التصنيف يتلاشى في ترجمة العنوان الرسميّة للعربيّة – "لا تقلق يا حبيبي"، كونها تختار أن تضع هذه الكلمات على لسان أليس، بالرغم من أنّها تأتي في الفيلم جزءًا من أغنية يغنّيها جاك لأليس.

مخرجة الفيلم هي أوليفيا وايلد، الشهيرة بأفلامها النقديّة للمجتمع الذكوريّ، والمنادية بالنقد النسويّ من خلال عرض مفاسد القوالب الجندريّة التقليديّة. وفقًا لوايلد؛ فإنّ شخصيّة فرانك، مدير الشركة الشرّير، الّذي أنشأ «مشروع فيكتوري» ليكون بديلًا للعالم التقدّميّ الّذي فيه بدأت تتحرّر النساء، هي شخصيّة مستوحاة من شخصيّة عالم النفس الكنديّ والمؤلّف جوردان بيترسون، الّذي وصفته بأنّه "بطل فكريّ زائف لمجتمع العزوبة غير الطوعيّة (Involuntary Celibates - المعروف اليوم باسم «إنسل»)"[6]. بيترسون اعترض بشدّة على هذا الوصف، وقال إنّ الفيلم هو "أحدث بروباغاندا يقودها التقدّميّون المتنمّرون الّذين يسيطرون الآن على هوليوود"[7].

هذا الصراع بين وايلد وبيترسون هو أحد أبرز الصراعات المعاصرة على ثقافة هوليوود، بين الصوت التقدّميّ الّذي ينادي بتحرُّر المرأة المطلق من سلطة الرجال، وبين الصوت المحافظ المتمسّك بالقوالب الجندريّة التقليديّة لأدوار الرجال العمّال، والنساء ربّات المنازل. جوردان بيترسون هو أحد أبرز الممثّلين للصوت المحافظ في العالم، فهو متحفّظ من كلّ نجاحات الحراك النسويّ، ويكفر بشدّة في حراك الصوابيّة السياسيّة (Political Correctness). فيلم «لا تقلق يا حبيبي» ونقده لمثاليّة العالم القديم السابق للثورات النسويّة، هو من أوضح الأصوات النقديّة المناهضة للتحفّظات البيترسونيّة، الّتي يعلو صوتها في أيّامنا؛ من خلال ازدياد أسهم اليمين السياسيّ في جميع أرجاء أوروبّا والعالم الغربيّ.

شخصيّة فرانك، مدير الشركة الشرّير، هي شخصيّة مستوحاة من شخصيّة عالم النفس الكنديّ والمؤلّف جوردان بيترسون، الّذي وصفته بأنّه "بطل فكريّ زائف لمجتمع العزوبة غير الطوعيّة (Involuntary Celibates)"...

في نظرة على العالم العربيّ والشرقيّ، نجد عشرات الأمثلة للصوت المحافظ وإسقاطاتها على حياة النساء، من ثورة الحجاب في إيران، والتعامل معها بأنّها ثورة على التعاليم الدينيّة، بينما هي ثورة على الدين السياسيّ بشكل واضح. مثال آخر نجده في قصّة شيرين عبد الوهاب الّتي تتعرّض لعنف من قِبَل زوجها ثمّ أخيها، وتوظيف كليهما للتلاعب النفسيّ الّذي يعرضها بأنّها مريضة نفسيّة. توظيف ادّعاء المرض النفسيّ الّذي شاهدناه في الفيلم هو ذاته التوظيف الّذي يراه الرجال في حياة شيرين عبد الوهاب، وهو ذاته المسبّب المركزيّ لتشخيص النساء بمرض الهيستيريا في القرن التاسع عشر. توظيف التلاعب النفسيّ كأداة اعتراضيّة على تحرّر النساء مألوف جدًّا كذلك في قصص الملاجئ المجدليّة (Magdalene Asylum)، تلك السجون الّتي شُيِّدَتْ بهدف ظاهريّ لعلاج "النساء الساقطات أخلاقيًّا"[8]. مألوف كذلك في صفوف النظريّة النقديّة من خلال كتابات ميشيل فوكو عن السياسة الحيويّة (Biopolitics) والسلطة الحيويّة (Biopower) في «تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ»[9] وفي «تاريخ الجنسانيّة»[10].

كلّ هذه الأمثلة، الحديثة والقديمة، هي مجرّد دليل على أنّ أجساد النساء كانت، وما زالت، مساحات نضال للتحرّر من الذكورة السامّة في كلّ أنحاء المعمورة، وأنّ الطغيان البشريّ، وخاصّة الاستبداد الجندريّ منه، لمّا ينتهِ بعد، بل أصبح يعيد صياغة نفسه من خلال تجنيد أسلحة تكنولوجيّة جديدة، كالواقع الافتراضيّ والمحاكاة، كما يقترح «لا تقلق يا حبيبي». أليس تشامبرس، بطلة الفيلم، تحمل اسم الطفلة أليس المعروفة من كتاب «أليس في بلاد العجائب»، وتُشبهها في كونها تزور العالمين، وتواجه الاضطهاد والاستهتار في العالمين. فهل يأتي يوم تتحرّر فيه أليس تشامبرس من جحر الأرنب ومن سلطة الرجال، أم أنّها ستستسلم لها، وتصبح جزءًا منها، كما أصبحت شخصيّة الجارة بوني من أجل أطفالها؟

 


إحالات

 

[1] بيتي فريدان، اللغز الأنثويّ. ترجمة عبدالله بديع فاضل (دمشق: الرحبة للنشر والتوزيع، 2014).

[2] توماس مور، يوتوبيا. ترجمة د. أنجيل بطرس سمعان (القاهرة، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، 1974). 

[3] أفلاطون، الجمهوريّة. ترجمة حنا خباز (مؤسّسة هنداوي، 2017).

[4] أوغسطينس، مدينة الله. ترجمة الخورأسقف يوحنا الحلو (بيروت: دار المشرق، 2000).  

[5] Charles Taylor, The malaise of modernity (House of Anansi, 1991).‏

[6] Zack Sharf, "Jordan Peterson Breaks Down in Tears When Asked About Olivia Wilde Calling Him a 'Hero to the Incel Community': 'Sure, Why Not?'". Variety, September 29, 2022, Retrieved October 22, 2022.

[7] Peonyi Hirwani, "Jordan Peterson responds after Olivia Wilde says movie character was based on him". The Independent, September 5, 2022. Retrieved October 22, 2022. 

[8] Alison Campsie, "Scotland's Magdalene Asylums for "fallen women"". The Scotsman, 3 March 2017, Retrieved October 22, 2022.

[9] ميشيل فوكو، تاريخ الجنون في العصر الكلاسيكيّ، ترجمة سعيد بنكراد (بيروت: المركز الثقافيّ العربيّ، 2006).  

[10] ميشيل فوكو، تاريخ الجنسانيّة I: إرادة العرفان، ترجمة محمّد هشام (المغرب: أفريقيا الشرق، 2004. 

 


 

لؤي وتد

 

 

 

 

باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في «جامعة تل أبيب»، في أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ، ومحرّر موقع «حكايا».